آخر الاخبار

“حرام الجسد”.. دراما جنسية بلا بوصلة بقلم : أحمد شوقي

 

1459508708597

من بين المخرجين المصريين المعاصرين يمتلك خالد الحجرواحدة من أغرب التجارب السينمائية التي يمكن رصدها. الغرابة مصدرها التباين في كل شيء: في الموضوعات والأنواع، في الأسلوب والخيارات الإخراجية، وفي مستوى الناتج النهائي للعمل. الناظر لأفلام الحجر الخمسة السابقة سيلمس هذا التراوح بين التأريخ ذي الحس الذاتي في “أحلام صغيرة، الميلودراما التقليدية في “قبلات مسروقة، الميلودراما ذات البعد الأسطوري في “الشوق، الكوميديا العاطفية في “حب البنات، وحتى مغامرة الفيلم الغنائي في “مفيش غير كده.

هذا التباين يشير بالتأكيد لحس مغامرة ورغبة في التجريب، لكنه أيضًا يبرز مشكلة كبيرة اسمها غياب الهمّ الفني. هذا الشعور بأن المخرج يريد حقًا أن يروي هذه الحكاية لأسباب جمالية أو سردية أو اجتماعية أو أي غرض آخر. الشعور الذي توّفر في أول أفلام المخرج “أحلام صغيرة” فحسب وإن شابه بعض الملاحظات الشكلية، لكنه غاب عن كل أعماله التالية لدرجة جعلت أفضل أفلامه هي أخفها، لأن العمل الخفيف بطبيعته لا يحتاج هذا الشعور قدر حاجة الفيلم الجاد له.
قبل مشاهدة فيلمه الجديد “حرام الجسد” توسمنا أن تكون هي تجربة عودة خالد الحجر لما بدأه قبل ما يزيد عن عقدين، باعتباره أول عمل من وقتها يستعيد فيه موقع المخرج المؤلف، ويرجع للتعامل مع شركة مصر العالمية التي أنتجت أول أفلامه الطويلة. لكن بين التوقعات والنتائج تعثر الفيلم في عدة خيارات نرصدها في هذا المقال.

شاهد- الإعلان الترويجي لفيلم “حرام الجسد” (٢٠١٦)

واقعية أم تجريد؟

الفيلم يبدأ في الأيام التالية لجمعة ٢٨ يناير ٢٠١١، عندما يهرب علي (أحمد عبد الله محمود من السجن ويلوذ بابن عمه حسن (محمود البزاوي الذي يعمل غفيرًا في مزرعة يملكها الثري مراد (زكي فطين عبد الوهاب، ويعيش مع زوجته الشابة فاطمة (ناهد السباعي التي نفهم أنها كانت على علاقة قديمة بعليّ قبل سجنه، لتصير فاطمة هي الأنثى المرغوبة وسط ثلاثة رجال خاصة مع عزلة المزرعة.

في هذا الإطار العام يمكن اعتبار الحكاية هي المقابل الموضوعي لمسرحية “جريمة في جزيرة الماعز” للكاتب الإيطالي أوجو بيتي، والتي تحوّلت في مصر إلى فيلمين هما “رغبة متوحشة و”الراعي والنساء. مع تبديل الأدوار بحيث تكون هناك امرأة واحدة وثلاثة رجال مقابل رجل وثلاث نساء في المسرحية. وحتى لو لم يكن النص الإيطالي في عقل خالد الحجر وهو يكتب سيناريو فيلمه ـ وهذا جائز ـ سيظل التشابه حاضرًا لاسيما مع الحس المسرحي المسيطر على الفيلم بشكل عام.

ما نقصده بالحس المسرحي هو أن النص يفترض في أغلب الحالات التجرد من الزمان والمكان، بحيث يكون صالحًا للتأويل والمعالجة والوضع في سياقات مختلفة وفقًا لرؤية الفنان. هذا ينطبق بشدة على حكاية “حرام الجسد” التي يمكن بسهولة أن تحدث مجردة من زمانها ومكانها، فيكاد يقتصر تأثير العنصرين على أمور شكلية مثل تبرير هروب علي وخلق خط فرعي بلا قيمة عن ابن مراد الراغب في الانضمام لثوار التحرير، لكنها تفاصيل يمكن ببساطة الاستغناء عنها دون أن تتأثر دراما الفيلم أو طرحه النهائي أو حتى يحتاج مسار الأحداث لتعديل يذكر.

هذا هو الفخ الأول الذي يتعثر فيه الفيلم: الوقوف في منطقة حائرة بين التجريد والواقعية. الحكاية في هيكلها الرئيسي دراما علاقات يمكن أن تقع في أي مكان وزمان، لكن المخرج يُصر على أن يزج بها في سياق واقعي، دون أن يربط هذا السياق بدراما الفيلم أو يمتلك طرحًا فكريًا يمكن أن يفسر الخيار.

 

تبعات أسلوبية 

المشكلة ليست في تصنيف الحكاية كواقع أو تجريد، لكن فيما يترتب على هذا التصنيف من تبعات تؤثر على خيارات المخرج الأسلوبية، فتخلق ثغرات منطقية لم تكن لتتواجد لو حسم المخرج الأمر من البداية. على سبيل المثال خيارات مظهر الشخصيات وملابسها، والتي تقودها الحكاية التجريدية ذات الطابع الحسي، ورغبة المخرج في ربط الدراما بالأجساد كما يوضح عنوان الفيلم، ليترجم هذا بصريًا بإظهار جسديّ علي وفاطمة، فتخلع فاطمة جلبابها وتبقى بالملابس الداخلية ووراءها باب الكوخ مفتوحًا، ويقف علي في الساحة ليغسل جسده أو ليعرضه علينا وعلى المرأة المشتاقة لجنس تفتقده مع زوجها العاجز.

كل هذا كان من الممكن أن يكون خيارًا جماليًا مالم يقم المخرج بتحديد مكان وزمان حكايته: وسط الصحراء في برد يناير، أي آخر مكان وزمان من الممكن أن يقف فيه شخص مهما بلغت فتوته ليتحمم في العراء. ليتحوّل الأمر من امتلاك عيني المشاهد بجماليات المشاهد الليلية المضاءة بالمشاعل (يبرع مدير التصوير نيستور كالفو في مشاهد الليل أكثير بكثير من مشاهد النهار التقليدية)، إلى زرع استنكار داخل عقله حول منطقية ما يراه. سؤال خرج للعلن في صورة تعليقات من بعض حاضري العرض الأول للفيلم.
قس على ذلك تفاصيل أخرى عديدة تمر طوال الفيلم يثيرها تحديد الزمان والمكان: كيف كان الغفير العجوز يدير وحده مزرعة كاملة تخلو من أي فلاح أو عامل غيره؟ كيف يقوم ابن الثري بالتسلل من منزل في وسط الصحراء لينضم لمتظاهري التحرير بسهولة وكأنه يتسلل من شقة في وسط البلد؟ بأي مبرر يقوم رجل ريفي بإخبار زوجته أنه سيتمكن أخيرًا من مضاجعتها بعدما أعطاه أحدهم دواءً للعجز الجنسي؟ تساؤلات كثيرة خلقها المخرج لنفسه بربط الأحداث بواقع عايشه الجميع وثقافة وجغرافيا مألوفة للقطاع الأكبر من المشاهدين، دون أن يدعم خياره بما يبرره ويجعل قيمته تفوق عيوبه.

محلوظة المحرر: الفقرات التالية تحرق أحداث ونهاية الفيلم.

دراما بلا بوصلة :

إذا ما تجاوزنا أزمة النوع وتبعاتها، وتعاملنا مع الحكاية الرئيسية لنحاول فهم غرض صانع الفيلم من طرحها، سنجد نفسنا نصطدم بمشكلة جديدة هي غياب البوصلة الحاكمة لهذه الدراما ولوجهة نظر الفيلم فيها، وبوصلة أي عمل هو دوافع شخوصه والطرح الذي يرغب صانعه في التعبير عنه. هنا يبدو العنوان غامضًا لدرجة التكلف “حرام الجسد”، لغويًا هو خبر لمبتدأ محذوف يفترض أن يوضحه الفيلم لتصير الجملة في النهاية هي “كذا هو حرام الجسد”. لكن وبعد تصعيدات درامية وعلاقتي جنس غير شرعي وطفل مجهول النسب وثلاث وفيات، لا يصل الفيلم إلى إجابة واضحة يمكننا أن نفهم منها ما يصفه الحجر بحرام الجسد أو ما يريد طرحه كاستنتاج نهائي لهذه الدراما الجنسية.

الشخصيات الفقيرة الثلاث يمكن فهم دوافعها: كانوا يعيشون في قرية والشاب يحب الفتاة، حتى دفعته أن يقتل رجلًا يقوم بمضايقتها فينتهي به الحال مسجونًا لربع قرن، فلا تجد أمامها سوى الزواج من ابن عمه طيب القلب الذي تكتشف لاحقًا عجزه الجنسي. لديك هنا مثلث مشحون بالدوافع، شاب يشعر بالخيانة لكنه راغب في تجاوزها بخيانة أخرى، امرأة تدفع حبيبها في كل مرة للشر بسذاجة ممزوجة ببعض المكر ثم تعود وتشعر بالذنب، ورجل يمتلك الشرعية لكنه في موقف ضعف بسبب عجزه. هذا زخم درامي مثالي وإن كان عتيق الطراز شوهد كثيرًا من قبل، مثاليته تنبع من تفهم المشاهد النسبي لدوافع كل شخصية، فلا يوجد هنا خير مطلق أو شر مطلق، فقط ضعف إنساني وأخطاء تدفع أصحابها لخطايا.

هذه بالمناسبة أفضل مساحة أداء يمكن لممثل أن يجدها، مساحة يجيد محمود البزاوي استغلالها فيقدم واحدًا من أهم أدواره على الإطلاق، مستفيدًا من ملامح وجهه الطيبة والتناقض بين طول القامة وانكسارها أمام الزوجة وصاحب العمل. أداء لا يعيبه سوى مباشرة جمل الحوار المتعلقة بعجزه الجنسي والتي تحدثنا عنها من قبل، لكن ضعف الحوار ليس مشكلة الممثل بالطبع وإنما المؤلف والمخرج، والذي يظهر التفاوت بين مستوى الممثلين خللًا في توجيهه لهم، فامتياز البزاوي يقابله فتور في أداء أحمد عبد الله محمود وناهد السباعي. الأول نراه للمرة الأولى بينما الأخيرة ممثلة ممتازة أثبتت قدراتها مرات عديدة، وظهورها بصورة باهتة في دور يمتلك بطبيعته مساحة مناسبة للتألق أمر يجب أن يُسئل عنه صاحب القرار في الفيلم.

مسار الدراما يسير بشكل جيد إجمالًا رغم المشكلات المذكورة، يظل محتفظًا بمنطق متماسك لا يقاطعه سوى ما ذكرناه من هفوات منطقية ومباشرة وتوتر في الأداء التمثيلي. لكن كل هذا يتغير بمجرد مقتل الزوج ودخول صاحب المزرعة كعشيق بالقوة لفاطمة. عند هذه اللحظة يفقد العمل بوصلته الدرامية تدريجيًا، بدءً من الرجل الذي لا يمتلك دوافعًا كافيًا لقيامه بهذا الشر المطلق. فمراد ظهر في النصف الأول كرجل ثري متعجرف وإن كان طيب القلب يعاني من فتور في حياته الأسرية، قبل أن ينقلب مغتصبًا متوحشًا يجبر خادمته ـ التي لم نر أي علامة لانجذابه نحوها ـ على مضاجعته وإلا أوصلها للإعدام، في تصرف لا تفسير له اللهم إلا إذا أراد المخرج أن يصمه بسبب وقوفه ضد فكرة الثورة في خط الدراما الفرعي، لكن هذا تبرير متكلف يأخذ الفيلم نظريًا لمسار لم يحدث في الشريط الذي شاهدناه.

افتقاد البوصلة يستمر مع إرغام مراد فاطمة على الزواج من عشيقها وكأنه يمنحهما فرصة لا يستغلانها في قتله بصورة قانونية كجريمة شرف، ثم حمل فاطمة بطفل لا تعرف والده، ثم إصابتها بالجنون في تصعيد ميلودرامي أقرب للتجريد منه للواقعية (مجددًا مشكلة توتر السياق)، وانتهاء الأمر بموتها وعليّ ليبقى طفل الخطيئة الذي يقرر مراد ـ بعد أن تحول فعليًا إلى شرير كلاسيكي ـ أن يتبناه ويدخله أحسن مدارس!

لاحظ قسوة ما يحدث دراميًا وإنسانيًا: المخرج الذي نجح في نصف الفيلم الأول في وضع المشاهد في حيرة إنسانية بين خطأ الفعل والتعاطف مع مرتكبه يستغني عن هذا الزخم لحساب تصنيف بالأبيض والأسود، ويقسو على الشخصيات التي تمتلك دوافع للخطيئة فيقتلهم شر قتلة بينما يُبقى من يرتكب الشر بلا دافع ليتكرم برعاية طفل الخطيئة. والأهم من هذا كله هو تحويل النبرة إلى استنتاج أخلاقي يلوم الحبيبين الشابين ويجعلهما بشكل ما مبتدأ وصف “حرام الجسد” مطهرًا إياهم بالموت، في حكم متعسف جدًا على شخصيات تمتلك دفوعًا وتساهل مضاد مع من يستحق العقاب، والأهم أنه تقييم أخلاقي بالغ القسوة على خطأ قام الفيلم ذاته بتبريره في وقته.

وفي النهاية

هل يؤمن خالد الحجر فعلًا أن وجود علاقة بين علي وفاطمة هو “حرام الجسد”؟ لا أقصد التحريم الديني بالطبع وإنما الإنساني لضعف حبيبين فرقتهما الظروف ثم دفعتهما دفعًا إلى ما فعلاه. في اعتقادي أنه إذا ما ناقشنا الحجر فسنجد أن حكمه على العلاقة يشبه نصف فيلمه الأول: أكثر تسامحًا. لكنه انعدام البوصلة الناتج عن غياب الهم. قد يكون خالد الحجر بالفعل راغبًا في تقديم دراما جسدية حول العلاقات المحرمة، ولديه من الأدوات الإخراجية ما يجعله قادرًا على تحقيق رغبته، لكنه في المقابل لا يمتلك ما يريد أن يقوله في هذه الدراما، يشغله شكلها أكثر من مضمونها، والنتيجة للأسف كانت عملًا متعثرًا علي صعيدي الشكل والمضمون، حتى لو امتلك نقطة انطلاق جيدة.

فن ون – في الفن

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*